سورة الرعد - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الرعد)


        


{وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (32) أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34)}
[32] {وَلَقَدِ استهزئ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} [33] {أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ على كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُواْ لِلَّهِ شُرَكَآءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي الأرض أَم بظاهر مِّنَ القول بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ وَصَدُّواْ عَنِ السبيل وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [34] {لَهُمْ عَذَابٌ فِي الحياة الدنيا وَلَعَذَابُ الأخرة أَشَقُّ وَمَا لَهُم مِّنَ الله مِن وَاقٍ} اعلم أن القوم لما طلبوا سائر المعجزات من الرسول صلى الله عليه وسلم على سبيل الاستهزاء والسخرية وكان ذلك يشق على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يتأذى من تلك الكلمات فالله تعالى أنزل هذه الآية تسلية له وتصبيراً له على سفاهة قومه فقال له إن أقوام سائر الأنبياء استهزؤا بهم كما أن قومك يستهزئون بك: {فأمليت للذين كفروا} أي أطلت لهم المدة بتأخير العقوبة ثم أخذتهم فكيف كان عقابي لهم.
واعلم أني سأنتقم من هؤلاء الكفار كما انتقمت من أولئك المتقدمين والإملاء الإمهال وأن يتركوا مدة من الزمان في خفض وأمن كالبهيمة يملى لها في المرعى، وهذا وعيد لهم وجواب عن اقتراحهم الآيات على رسول الله صلى الله عليه وسلم على سبيل الاستهزاء، ثم إنه تعالى أورد على المشركين ما يجري مجرى الحجاج وما يكون توبيخاً لهم وتعجيباً من عقولهم فقال: {أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت} والمعنى: أنه تعالى قادر على كل الممكنات عالم بجميع المعلومات من الجزئيات والكليات وإذا كان كذلك كان عالماً بجميع أحوال النفوس، وقادراً على تحصيل مطالبها من تحصيل المنافع ودفع المضار ومن إيصال الثواب إليها على كل الطاعات، وإيصال العقاب إليها على كل المعاصي.
وهذا هو المراد من قوله: {قائم على كل نفس بما كسبت} وما ذاك إلا الحق سبحانه ونظيره قوله تعالى: {قائماً بالقسط} [آل عمران: 18].
واعلم أنه لابد لهذا الكلام من جواب واختلفوا فيه على وجوه:
الوجه الأول: التقدير: {أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت} كمن ليس بهذه الصفة؟ وهي الأصنام التي لا تنفع ولا تضر، وهذا الجواب مضمر في قوله تعالى: {وجعلوا لله شركاء} والتقدير: أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت كشركائهم التي لا تضر ولا تنفع، ونظيره قوله تعالى: {أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه} وما جاء جوابه لأنه مضمر في قوله: {فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله} [الزمر: 22] فكذا هاهنا، قال صاحب الكشاف: يجوز أن يقدر ما يقع خبراً للمبتدأ، أو يعطف عليه قوله: {وجعلوا} والتقدير: أفمن هو بهذا الصفة لم يوحدوه ولم يمجدوه وجعلوا له شركاء.
الوجه الثاني: وهو الذي ذكره السيد صاحب حل العقد فقال: نجعل الواو في قوله: {وجعلوا} واو الحال ونضمر للمبتدأ خبراً يكون المبتدأ معه جملة مقررة لإمكان ما يقارنها من الحال، والتقدير: {أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت} موجود. والحال أنهم جعلوا له شركاء ثم أقيم الظاهر وهو قوله (لله) مقام المضمر تقريراً للإلهية وتصريحاً بها، وهذا كما تقول: جواد يعطي الناس ويغنيهم موجود ويحرم مثلي.
واعلم أنه تعالى لما قرر هذه الحجة زاد في الحجاج فقال: {قل سموهم} وإنما يقال ذلك في الأمر المستحقر الذي بلغ في الحقارة إلى أن لا يذكر ولا يوضع له اسم، فعند ذلك يقال: سمه إن شئت. يعني أنه أخس من أن يسمى ويذكر، ولكنك إن شئت أن تضع له اسماً فافعل، فكأنه تعالى قال: سموهم بالآلهة على سبيل التهديد، والمعنى: سواء سميتموهم بهذا الاسم أو لم تسموهم به، فإنها في الحقارة بحيث لا تستحق أن يلتفت العاقل إليها، ثم زاد في الحجاج فقال: {أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض} والمراد: أتقدرون على أن تخبروه وتعلموه بأمر تعلمونه وهو لا يعلمه، وإنما خص الأرض بنفي الشريك عنها، وإن لم يكن شريك ألبته، لأنهم ادعوا أن له شركاء في الأرض لا في غيرها {أم بظاهر من القول} يعني تموهون بإظهار قول لا حقيقة له، وهو كقوله تعالى: {ذلك قولهم بأفواههم} [التوبة: 30] ثم إنه تعالى بين بعد هذا الحجاج سوء طريقتهم فقال على وجه التحقير لما هم عليه: {بل زين للذين كفروا مكرهم} قال الواحدي: معنى (بل) هاهنا كأنه يقول: دع ذكر ما كنا فيه زين لهم مكرهم، وذلك لأنه تعالى لما ذكر الدلائل على فساد قولهم، فكأنه يقول: دع ذكر الدليل فإنه لا فائدة فيه، لأنه زين لهم كفرهم ومكرهم فلا ينتفعون بذكر هذه الدلائل.
قال القاضي: لا شبهة في أنه تعالى إنما ذكر ذلك لأجل أن يذمهم به، وإذا كان كذلك امتنع أن يكون ذلك المزين هو الله، بل لابد وأن يكون إما شياطين الإنس وإما شياطين الجن.
واعلم أن هذا التأويل ضعيف لوجوه:
الأول: أنه لو كان المزين أحد شياطين الجن أو الإنس فالمزين في قلب ذلك الشيطان إن كان شيطاناً آخر لزم التسلسل، وإن كان هو الله فقد زال السؤال، والثاني: أن يقال: القلوب لا يقدر عليها إلا الله، والثالث: أنا قد دللنا على أن ترجيح الداعي لا يحصل إلا من الله تعالى وعند حصوله يجب الفعل.
أما قوله: {وصدوا عن السبيل} فاعلم أنه قرأ عاصم وحمزة والكسائي {وصدوا} بضم الصاد وفي حم {وصدوا عن السبيل} [النساء: 167] على ما لم يسم فاعله بمعنى أن الكفار صدهم غيرهم، وعند أهل السنة أن الله صدهم.
وللمعتزلة فيه وجهان: قيل الشيطان، وقيل أنفسهم وبعضهم لبعض كما يقال: فلان معجب وإن لم يكن ثمة غيره وهو قول أبي مسلم والباقون، وصدوا بفتح الصاد في السورتين يعني أن الكفار صدوا عن سبيل الله، أي أعرضوا وقيل: صرفوا غيرهم، وهو لازم ومتعد، وحجة القراءة الأولى مشاكلتها لما قبلها من بناء الفعل للمفعول، وحجة القراءة الثانية قوله: {الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله} [النساء: 167].
ثم قال: {ومن يضلل الله فما له من هاد} اعلم أن أصحابنا تمسكوا بهذه الآية من وجوه: أولها: قوله: {بل زين للذين كفروا مكرهم} وقد بينا بالدليل أن ذلك المزين هو الله.
وثانيها: قوله: {وصدوا عن السبيل} بضم الصاد، وقد بينا أن ذلك الصاد هو الله.
وثالثها: قوله: {ومن يضلل الله فما له من هاد} وهو صريح في المقصود وتصريح بأن ذلك المزين وذلك الصاد ليس إلا الله.
ورابعها: قوله تعالى: {لهم عذاب في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أشق} أخبر عنهم أنهم سيقعون في عقاب الآخرة وإخبار الله ممتنع التغير وإذا امتنع وقوع التغير في هذا الخبر، امتنع صدور الإيمان منه وكل هذه الوجوه قد لخصناها في هذا الكتاب مراراً، قال القاضي: {ومن يضلل الله} أي عن ثواب الجنة لكفره وقوله: {فما له من هاد} منبيء بذلك أن الثواب لا ينال إلا بالطاعة خاصة فمن زاغ عنها لم يجد إليها سبيلا، وقيل: المراد بذلك من حكم بأنه ضال وسماه ضالاً، وقيل المراد من يضلله الله عن الإيمان بأن يجده كذلك، ثم قال والوجه الأول أقوى.
واعلم أن الوجه الأول ضعيف جداً لأن الكلام إنما وقع في شرح إيمانهم وكفرهم في الدنيا ولم يجز ذكر ذهابهم إلى الجنة ألبتة فصرف الكلام على المذكور إلى غير المذكور بعيد. وأيضاً فهب أنا نساعد على أن الأمر كما ذكروه، إلا أنه تعالى لما أخبر أنهم لا يدخلون الجنة فقد حصل المقصود لأن خلاف معلوم الله ومخبره محال ممتنع الوقوع.
واعلم أنه تعالى لما أخبر عنهم بتلك الأمور المذكورة بين أنه جمع لهم بين عذاب الدنيا، وبين عذاب الآخرة الذي هو أشق، وأنه لا دافع لهم عنه لا في الدنيا ولا في الآخرة.
أما عذاب الدنيا فبالقتل، والقتال، واللعن، والذم، والإهانة، وهل يدخل المصائب والأمراض في ذلك أم لا؟ اختلفوا فيه، قال بعضهم: إنها تدخل فيه، وقال بعضهم: إنها لا تكون عقاباً، لأن كل أحد نزلت به مصيبة فإنه مأمور بالصبر عليها، ولو كان عقاباً لم يجب ذلك، فالمراد على هذا القول من الآية القتل، والسبيء، واغتنام الأموال، واللعن، وإنما قال: {ولعذاب الآخرة أشق} لأنه أزيد إن شئت بسبب القوة والشدة، وإن شئت بسبب كثرة الأنواع، وإن شئت بسبب أنه لا يختلط بها شيء من موجبات الراحة، وإن شئت بسبب الدوام وعدم الانقطاع، ثم بين بقوله: {وما لهم من الله من واق} أي أن أحداً لا يقيهم ما نزل بهم من عذاب الله.
قال الواحدي: أكثر القراء وقفوا على القاف من غير إثبات ياء في قوله (واق) وكذلك في قوله: {ومن يضلل الله فما له من هاد} وكذلك في قوله: {وال} وهو الوجه لأنك تقول في الوصل: هذا هاد ووال وواق، فتحذف الياء لسكونها والتقائها مع التنوين، فإذا وقفت انحذف التنوين في الوقف في الرفع والجر، والياء كانت انحذفت فيصادف الوقف الحركة التي هي كسرة في غير فاعل فتحذفها كما تحذف سائر الحركات التي تقف عليها فيصير هاد، ووال، وواق. وكان ابن كثير يقف بالياء في هادي ووالي وواقي ووجهه ما حكى سيبويه أن بعض من يوثق به من العرب يقول: هذا داعي فيقفون بالياء.


{مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35)}
[35] {مَّثَلُ الجنة التى وُعِدَ المتقون تَجْرِى مِن تَحْتهَا الأنهار أُكُلُهَا دآئِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الذين اتقوا وَّعُقْبَى الكافرين النار} وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى لما ذكر عذاب الكفار في الدنيا والآخرة، أتبعه بذكر ثواب المتقين وفي قوله: {مثل الجنة} أقوال: الأول: قال سيبويه: {مثل الجنة} مبتدأ وخبره محذوف والتقدير: فيما قصصنا عليكم مثل الجنة.
والثاني: قال الزجاج: مثل الجنة جنة من صفتها كذا وكذا.
والثالث: مثل الجنة مبتدأ وخبره تجري من تحتها الأنهار، كما تقول صفة زيد اسم.
والرابع: الخبر هو قوله: {أكلها دائم} لأنه الخارج عن العادة كأنه قال: {مثل الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار} كما تعلمون من حال جناتكم إلا أن هذه أكلها دائم.
المسألة الثانية: اعلم أنه تعالى وصف الجنة بصفات ثلاث: أولها: تجري من تحتها الأنهار.
وثانيها: أن أكلها دائم. والمعنى: أن جنات الدنيا لا يدوم ورقها وثمرها ومنافعها.
أما جنات الآخرة فثمارها دائمة غير منقطعة.
وثالثها: أن ظلها دائم أيضاً، والمراد أنه ليس هناك حر ولا برد ولا شمس ولا قمر ولا ظلمة ونظيره قوله تعالى: {لا يرون فيها شمساً ولا زمهريراً} [الإنسان: 13] ثم إنه تعالى لما وصف الجنة بهذه الصفات الثلاثة بين أن ذلك عقبى الذين اتقوا يعني عاقبة أهل التقوى هي الجنة، وعاقبة الكافرين النار. وحاصل الكلام من هذه الآية أن ثواب المتقين منافع خالصة عن الشوائب موصوفة بصفة الدوام.
واعلم أن قوله: {أكلها دائم} فيه مسائل ثلاث:
المسألة الأولى: أنه يدل على أن أكل الجنة لا تفنى كما يحكى عن جهم وأتباعه.
المسألة الثانية: أنه يدل على أن حركات أهل الجنة لا تنتهي إلى سكون دائم، كما يقوله أبو الهذيل وأتباعه.
المسألة الثالثة: قال القاضي: هذه الآية تدل على أن الجنة لم تخلق بعد، لأنها لو كانت مخلوقة لوجب أن تفنى وأن ينقطع أكلها لقوله تعالى: {كل من عليها فان} [الرحمن: 26]. و{كل شيء هالك إلا وجهه} [القصص: 88] لكن لا ينقطع أكلها لقوله تعالى: {أكلها دائم} فوجب أن لا تكون الجنة مخلوقة. ثم قال: فلا ننكر أن يحصل الآن في السموات جنات كثيرة يتمتع بها الملائكة ومن يعد حياً من الأنبياء والشهداء وغيرهم على ما روي في ذلك، إلا أن الذي نذهب إليه أن جنة الخلد خاصة إنما تخلق بعد الإعادة.
والجواب: أن دليلهم مركب من آيتين: أحدهما: قوله: {كل شيء هالك إلا وجهه} والأخرى قوله: {أكلها دائم وظلها} فإذا أدخلنا التخصيص في أحد هذين العمومين سقط دليلهم فنحن نخصص أحد هذين العمومين بالدلائل الدالة على أن الجنة مخلوقة، وهو قوله تعالى: {وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين} [آل عمران: 133].


{وَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآَبِ (36)}
اعلم أن في المراد بالكتاب قولين: الأول: أنه القرآن والمراد أن أهل القرآن يفرحون بما أنزل على محمد من أنواع التوحيد والعدل والنبوة والبعث والأحكام والقصص، ومن الأحزاب الجماعات من اليهود والنصارى وسائر الكفار من ينكر بعضه وهو قول الحسن وقتادة.
فإن قيل: الأحزاب ينكرون كل القرآن.
قلنا: الأحزاب لا ينكرون كل ما في القرآن، لأنه ورد فيه إثبات الله تعالى وإثبات علمه وقدرته وحكمته وأقاصيص الأنبياء، والأحزاب ما كانوا ينكرون كل هذه الأشياء.
والقول الثاني: إن المراد بالكتاب التوراة والإنجيل، وعلى هذا التقدير ففي الآية قولان: الأول: قال ابن عباس: الذين آتيناهم الكتاب هم الذين آمنوا بالرسول صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وكعب وأصحابهما ومن أسلم من النصارى وهم ثمانون رجلاً أربعون بنجران وثمانية باليمن واثنان وثلاثون بأرض الحبشة وفرحوا بالقرآن، لأنهم آمنوا به وصدقوه والأحزاب بقية أهل الكتاب وسائر المشركين قال القاضي: وهذا الوجه أولى من الأول لأنه لا شبهة في أن من أوتي القرآن فإنهم يفرحون بالقرآن، أما إذا حملناه على هذا الوجه ظهرت الفائدة ويمكن أن يقال: إن الذين أوتوا القرآن يزداد فرحهم به لما رأوا فيه من العلوم الكثيرة والفوائد العظيمة، فلهذا السبب حكى الله تعالى فرحهم به.
والثاني: والذين آتيناهم الكتاب اليهود أعطوا التوارة، والنصارى أعطوا الإنجيل، يفرحون بما أنزل في هذا القرآن، لأنه مصدق لما معهم ومن الأحزاب من سائر الكفار من ينكر بعضه، وهو قول مجاهد.
قال القاضي: وهذا لا يصح، لأن قوله: {يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ} يعم جميع ما أنزل إليه، ومعلوم أنهم لا يفرحون بكل ما أنزل إليه ويمكن أن يجاب فيقال إن قوله: {بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ} لا يفيد العموم بدليل جواز ادخال لفظتي الكل والبعض عليه، ولو كانت كلمة ما للعموم لكان إدخال لفظ الكل عليه تكريراً وإدخال لفظ البعض عليه نقصاً. ثم إنه تعالى لما بين هذا جمع كل ما يحتاج المرء إليه في معرفة المبدأ والمعاد في ألفاظ قليلة منه فقال: {قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَابِ} وهذا الكلام جامع لكل ما ورد التكليف به، وفيه فوائد: أولها: أن كلمة إنما للحصر ومعناه إني ما أمرت إلا بعبادة الله تعالى، وذلك يدل على أنه لا تكليف ولا أمر ولا نهي إلا بذلك.
وثانيها: أن العبادة غاية التعظيم، وذلك يدل على أن المرء مكلف بذلك.
وثالثها: أن عبادة الله تعالى لا تمكن إلا بعد معرفته ولا سبيل إلى معرفته إلا بالدليل، فهذا يدل على أن المرء مكلف بالنظر والاستدلال في معرفة ذات الصانع وصفاته، وما يجب ويجوز ويستحيل عليه.
ورابعها: أن عبادة الله واجبة، وهو يبطل قول نفاة التكليف، ويبطل القول بالجبر المحض.
وخامسها: قوله: {وَلاَ أُشْرِكُ بِهِ} وهذا يدل على نفي الشركاء والأنداد والأضداد بالكلية، ويدخل فيه إبطال قول كل من أثبت معبوداً سوى الله تعالى سواء قال: إن ذلك المعبود هو الشمس أو القمر أو الكواكب أو الأصنام والأوثان والأرواح العلوية أو يزدان وأهرمن على ما يقوله المجوس أو النور والظلمة على ما يقوله الثنوية.
وسادسها: قوله: {إِلَيْهِ ادعوا} والمراد منه أنه كما وجب عليه الإتيان بهذه العبادات فكذلك يجب عليه الدعوة إلى عبودية الله تعالى وهو إشارة إلى نبوته.
وسابعها: قوله: {وَإِلَيْهِ مَابِ} وهو إشارة إلى الحشر والنشر والبعث والقيامة فإذا تأمل الإنسان في هذه الألفاظ القليلة ووقف عليها عرف أنها محتوية على جميع المطالب المعتبرة في الدين.

3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10